الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
قد تقدم: أن حبان بن العرقة لعنه الله، رماه بسهم فأصاب أكحله فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كياً بالنار فاستمسك الجرح، وكان سعد قد دعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة، وذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهود، والمواثيق، والذمام، ومالوا عليه مع الأحزاب. فلما ذهب الأحزاب وانقشعوا عن المدينة، وباءت بنو قريظة بسواد الوجه، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحاصرهم كما تقدم، فلما ضيق عليهم وأخذهم من كل جانب، أنابوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهم بما أراد الله، فرد الحكم فيهم إلى رئيس الأوس. وكانوا حلفاءهم في الجاهلية وهو: سعد بن معاذ، فرضوا بذلك، ويقال: بل نزلوا ابتداءً على حكم سعد، لما يرجون من حنوه عليهم، وإحسانه وميله إليهم، ولم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة والخنازير، لشدة إيمانه وصديقيته رضي الله عنه وأرضاه. فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في خيمة في المسجد النبوي، فجيء به على حمار تحته إكاف قد وطئ تحته لمرضه، ولما قارب خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عليه السلام من هناك بالقيام له. قيل: لينزل من شدة مرضه، وقيل: توقيراً له بحضرة المحكوم عليهم، ليكون أبلغ في نفوذ حكمه، والله أعلم. فلما حكم فيهم بالقتل، والسبي، وأقر الله عينه، وشفى صدره منهم، وعاد إلى خيمته من المسجد النبوي صحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا الله عز وجل أن تكون له شهادة، واختار الله له ما عنده، فانفجر جرحه من الليل، فلم يزل يخرج منه الدم حتى مات رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه، فمات منه شهيداً. (ج/ص: 4/ 146) قال ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاهة الزرقي قال: حدثني من شئت من رجال قومي: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجراً بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟ قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات رضي الله عنه. هكذا ذكره ابن إسحاق رحمه الله. وقد قال الحافظ البيهقي في (الدلائل): حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبي وشعيب بن الليث قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر بن عبد الله قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات، فتحت له أبواب السماء، وتحرك له العرش؟ قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد بن معاذ. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس إذ قال: ((سبحان الله)) مرتين، فسبَّح القوم، ثم قال: ((الله أكبر، الله أكبر)) فكبر القوم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبت لهذا العبد الصالح، شُدد عليه في قبره، حتى كان هذا حين فرِّج له)). وروى الإمام أحمد والنسائي: من طريق يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، ويحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد يوم مات وهو يدفن: ((سبحان الله لهذا الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، شُدِّد عليه، ثم فرج الله عنه)). وقال محمد بن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة، عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر بن عبد الله قال: لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه، ثم كبر فكبر الناس معه، فقالوا: يا رسول الله ممَّ سبحت ؟: ((قال لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه)). وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق به. قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للقبر ضمة، لو كان أحد منها ناجياً لكان سعد بن معاذ)). قلت: وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن سعد ابن إبراهيم، عن نافع، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجياً منها لنجا سعد بن معاذ)). وهذا الحديث سنده على شرط الصحيحين، إلا أن الإمام أحمد رواه عن غندر عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن إنسان، عن عائشة به. ورواه الحافظ البزار عن نافع، عن ابن عمر قال: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا داود، عن عبد الرحمن، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر ضمة)) ثم بكى نافع. وهذا إسناد جيد، لكن قال البزار: رواه غيره عن عبيد الله عن نافع مرسلاً. (ج/ص: 4/ 147) ثم رواه البزار عن سليمان بن سيف، عن أبي عتاب، عن سكين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها)) وقال حين دفن: ((سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد)). وقال البزار: حدثنا إسماعيل بن حفص، عن محمد بن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ. فقيل: إنما يعني: السرير، ورفع أبويه على العرش. قال: تفتحت أعواده. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره، فاحتبس فلما خرج قيل له: يا رسول الله ما حبسك؟ قال: ((ضم سعد في القبر ضمة، فدعوت الله فكشف عنه)). قال البزار: تفرد به عطاء بن السائب. قلت: وهو متكلم فيه. وقد ذكر البيهقي رحمه الله بعد روايته ضمة سعد رضي الله عنه في القبر أثراً غريباً فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد ابن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا؟ فقالوا: ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول. وقال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الفضل بن مساور، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اهتز العرش لموت سعد بن معاذ)). وعن الأعمش: حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فقال رجل لجابر: فإن البراء بن عازب يقول: اهتز السرير. فقال: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)). ورواه مسلم عن عمرو الناقد، عن عبد الله بن إدريس، وابن ماجه، عن علي بن محمد، عن أبي معاوية كلاهما، عن الأعمش به، وليس عندهما زيادة قول الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر. وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم -: ((اهتز لها عرش الرحمن)). ورواه مسلم عن عبد بن حميد، والترمذي عن محمود بن غيلان كلاهما عن عبد الرزاق به. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عوف، حدثنا أبو نضرة، سمعت أبا سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اهتز العرش لموت سعد بن معاذ)). ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى به. وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد، قال قتادة: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وجنازته موضوعة اهتز لها عرش الرحمن)). ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله الأزدي، عن عبد الوهاب به. (ج/ص: 4/ 148) وقد روى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن البصري قال: اهتز عرش الرحمن فرحاً بروحه. وقال الحافظ البزار: حدثنا زهير بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: لما حملت جنازة سعد قال المنافقون: ما أخف جنازته وذلك لحكمه في بني قريظة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا ولكن الملائكة تحملته. إسناد جيد. وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب يقول: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: ((أتعجبون من لين هذه، لمناديل سعد بن معاذ خير منها أو ألين)). ثم قال: رواه قتادة والزهري، سمعنا أنساً عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد - هو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها فعجب الناس منها فقال: ((والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه)). وهذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه، وإنما ذكره البخاري تعليقاً. وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال محمد: وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم قال: دخلت على أنس بن مالك فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ. فقال: إنك بسعد لشبيه، ثم بكى وأكثر البكاء، وقال: رحمة الله على سعد كان من أعظم الناس وأطولهم. ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى أكيدر دومة، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من ديباج منسوج فيها الذهب، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر، وجلس فلم يتكلم، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة وينظرون إليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتعجبون منها، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون)). وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، من حديث محمد بن عمرو به. وقال الترمذي: حسن صحيح. قال ابن إسحاق: بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار: وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو قال: وقالت أمه يعني كبيشسة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية حين احتمل سعد على نعشه تندبه: ويل أم سعد سعداً * صرامة وحدّا وسؤدداً ومجداً * وفارساً معداً سد به مسداً * يقدّها ما قدّا قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ)). قلت: كانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة، إذ كان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم، فأقاموا قريباً من شهر، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار بني قريظة، فأقام عليهم خمساً وعشرين ليلة. (ج/ص: 4/ 149) ثم نزلوا على حكم سعد، فمات بعد حكمه عليهم بقليل، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة، أو أوائل ذي الحجة من سنة الحجة من سنة خمس، والله أعلم. وهكذا قال محمد بن إسحاق: إن فتح بنى قريظة كان في ذي القعدة وصدر ذي الحجة. قال: وولي تلك الحجة المشركون. قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضي الله عنه: لقد سجمت من دمع عيني عبرة * وحق لعيني أن تفيض على سعد قتيل ثوى في معرك فجعت به * عيون ذواري الدمع دائمة الوجد على ملة الرحمن وارث جنَّة * مع الشهداء وفدها أكرم الوفد فإن تك قد وعدتنا وتركتنا * وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد * كريم وأثواب المكارم والمجد بحكمك في حيي قريظة بالذي * قضى الله فيهم ما قضيت على عمد فوافق حكم الله حكمك فيهم * ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى * شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد فنعم مصير الصادقين إذا دعوا * إلى الله يوما للوجاهة والقصد قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: ((اهجهم أو هاجهم وجبريل معك)). قال البخاري: وزاد إبراهيم بن طهمان، عن الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت: ((أهج المشركين فإن جبريل معك)). وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، والنسائي من طرق عن شعبة بدون الزيادة التي ذكرها البخاري يوم بني قريظة. قال ابن إسحاق رحمه الله: وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر في يوم الخندق، قلت: وذلك قبل إسلامه: ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا ترى الأبدان فيها مسبغات * على الأبطال واليلب الحصينا (ج/ص: 4/ 150) وجردا كالقداح مسومات * نؤم بها الغَواة الخاطئينا كأنهم إذا صالوا وصُلنا * بباب الخندقين مصافحونا أناسٌ لا نرى فيهم رشيداً * وقد قالوا ألسنا راشدينا فأحجرناهم شهراً كريتاً * وكنا فوقهم كالقاهرينا نُراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا بأيدينا صوارم مرهفات * نقدُّ بها المفارق والشئونا كأن وميضهن معرِّيات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا وميضُ عقيقةٍ لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا فإن نرحل فأنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعداً رهينا إذا جن الظلام سمعت نوحاً * على سعدٍ يرجعن الحنينا وسوف نزوركم عما قريبٍ * كما زرناكم متوازرينا بجمعٍ من كنانة غير عُزلٍ * كأسد الغاب إذ حمَت العرينا قال: فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة رضي الله عنه فقال: وسائلةٍ تسائل ما لقينا * ولو شهدتُ رأتنا صابرينا صبرنا لا نرى لله عدلاً * على ما نابنا متوكلينا وكان لنا النبي وزير صدقٍ * به نعلو البرية أجمعينا نقاتلُ معشراً ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا نعالجهم إذا نهضوا إلينا * بضرب يعجل المتسرعينا ترانا في فضافض سابغاتٍ * كغُدران الملا مُتَسَرْبلينا وفي أيماننا بيض خفاف * بها نشفي مِراح الشاغبينا بباب الخندقين كأن أسداً * شوابكهن يحمين العرينا فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوساً معلمينا لننصر أحمداً والله حتى * نكون عبادَ صدقٍ مخلصينا (ج/ص: 4/ 151) ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا فأما تقتلوا سعداً سفاهاً * فإن الله خير القادرينا سيدخله جناتاً طيباتٍ * تكون مقامة للصالحينا كما قد ردَّكم فلا شريداً * بغيظكم خزايا خائبينا خزايا لم تنالوا ثم خيراً * وكدتم أن تكونوا دامرينا بريحٍ عاصف هبتْ عليكم * فكنتم تحتها متكمِّهينا قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري السهمي في يوم الخندق، قلت: وذلك قبل أن يسلم: حيِّ الديار محا معارفَ رسمها * طولُ البلى وتراوحُ الأحقاب فكأنما كتب اليهودُ رسومها * ألا الكنيف ومعقد الأطناب قفراً كأنك لم تكن تلهو بها * في نعمةٍ بأوانس أتراب فاترك تذكُّر ما مضى من عيشةٍ * ومحلَّة خلقِ المقام يباب واذكر بلاء معاشرٍ واشكرهمُ * ساروا بأجمعهم من الأنصاب أنصاب مكةَ عامدين ليثرب * في ذي غياطلَ جحفلٍ جبجاب يدع الحرُون مناهجاً معلومة * في كل نشْزٍ ظاهرٍ وشِعاب فيها الجيادُ شوازبٌ مجنوبةٌ * قُبَّ البطون واحقُ الأقراب من كل سلهبةٍ وأجردَ سلهب * كالسيدِ بادر غفلةَ الرقاب جيشُ عيينةُ قاصد بلوائه * فيه وصخرُ قائد الأحزاب قرمان كالبدرين أصبح فيهما * غيث الفقير ومعقلُ الهرّاب حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا * للموت كل مجرَّب قضَّاب شهراً وعشراً قاهرين محمداً * وصحابُهُ في الحرب خيرُ صحاب نادوا برحلتهم صبيحةَ قلتم * كدنا نكون بها مع الخيَّاب لولا الخنادقُ غادروا من جمعهم * قتلى لطيرٍ سُغّب وذئاب (ج/ص: 4/ 152) قال: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال: هل رسم دراسة المقام يباب * متكلم لمحاورٍ بجواب قفر عفا رهمُ السحاب رسومَه * وهبوب كل مطلةٍ مرباب ولقد رأيتُ بها الحلول يزينُهم * بيض الوجوه ثواقبُ الأحساب فدع الديارَ وذكر كل خريدةٍ * بيضاءَ أنسةِ الحديث كَعاب واشكُ الهموم إلى الإله وما ترى * من معشرٍ ظلموا الرسول غضاب ساروا بأجمعهم إليه وألَّبوا * أهل القرى وبواديَ الأعراب جيشٌ عيينةُ وابن حربٍ فيهم * متخمطون بحلبةِ الأحزاب حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا * قتل الرسول ومغنم الأسلاب وغدوا علينا قادرين بأيدهم * رُدوا بغيظهم على الأعقاب بهبوبِ معصفةٍ تُفرِّق جمعهم * وجنودُ ربك سيد الأرباب فكفى الإله المؤمنينَ قتالهم * وأثابهم في الأجر خير ثواب من بعد ما قنطوا ففرَّق جمعهم * تنزيل نصر مليكنا الوهاب وأقر عين محمدٍ وصحابه * وأذل كل مكذِّب مرتاب عاتي الفؤاد موقعٌ ذي ريبة * في الكفر ليس بطاهر الأثواب عِلَق الشقاءُ بقلبه ففؤاده * في الكفر آخر هذه الأحقاب قال: وأجابه كعب بن مالك رضي الله عنه أيضاً فقال: أبقى لنا حدثُ الحروب بقية * من خير نحلةِ ربنا الوهاب بيضاءَ مشرفة الذُرى ومعاطناً * حُمَّ الجذوع غزيرة الأحلاب كاللوب يُبذل جمُّها وحفيلها * للجار وابن العمِّ والمنتاب ونزائعاً مثل السراج نمى بها * علفُ الشعير وجزَّة المقضاب عرَّى الشَّوى منها وأردف نحضها * جردُ المتون وسائر الأراب قَوْداً تُراح إلى الصباح إذا غدت * فعلَ الضِّراء تُراحُ للكلاب (ج/ص: 4/ 153) وتحوط سائمة الديار وتارةً * تُردي العدى وتئوبُ بالأسلاب حوشُ الوحوش مطارةً عند الوغى * عبسُ اللقاء مبينة الأنجاب عُلفت على دَعَةٍ فصارت بُدناً * دُخْسُ البضيع خفيفة الأقصاب يغدون بالزغف المضاعف شكَّه * وبمترصاتٍ في الثَّقاف صياب وصوارمٍ نزعَ الصياقلُ عُلبها * وبكل أروعَ ماجدِ الأنساب يصلُ اليمين بمارنٍ متقارب * وكلت وقيعته إلى خَباب وأغرّ أزرق في القناة كأنه * في طُيْخة الظلماء ضوءُ شهاب وكتيبةٍ ينفي القران قتيرُها * وتردُّ حد قواحِزِ النشاب جأوى ململمةً كأن رماحها * في كل مجمعةٍ صريمة غاب تأوي إلى ظل اللواء كأنه * في صعدة الخطي فيءُ عُقاب أعيت أبا كربٍ وأعيت تبعاً * وأبت بسالتها على الأعراب ومواعظٍ من ربنا نهدي بها * بلسان أزهر طيب الأثواب عرضت علينا فاشتهينا ذكرها * من بعد ما عرضت على الأحزاب حكماً يراها المجرمون بزعمهم * حرجاً ويفهمها ذوو الألباب جاءت سخينةُ كي تغالب ربها * فليغلبن مغالبُ الغلاب قال ابن هشام: حدثني من أثق به، حدثني عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما سمع منه هذا البيت: ((لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا)). قلت: ومراده بسخينة قريش، وإنما كانت العرب تسميهم بذلك لكثرة أكلهم الطعام السخن، الذي لا يتهيأ لغيرهم غالباً من أهل البوادي، فالله أعلم. (ج/ص: 4/ 154) قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضاً: من سرَّه ضربٌ يمعمع بعضه * بعضاً كمعمعة الإناء المحرق فليأت مأسدة تسن سيوفها * بين الذاد وبين جذع الخندق دربوا بضرب المعلّمين وأسلموا * مهجات أنفسهم لربِّ المشرق في عُصبةٍ نصرَ الإله نبيَّه * بهمُ وكان بعبده ذا مرفق في كل سابغةٍ تخطّ فُضُولها * كالنهي هبَّتْ ريحه المترقرق بيضاءَ محكمةٍ كأن قتيرها * حدق الجنادب ذات شك موثق جدلاء يحفرها نجاد مهندٍ * صافي الحديدة صارمٍ ذي رونق تلكم مع التقوى تكون لباسَنا * يوم الهياج وكل ساعة مصدق نصلُ السيوف إذا قصرن بخطونا * قدماً ونلحقها إذا لم تلحق فترى الجماجم ضاحياً هاماتها * بُله الأكف كأنها لم تخلق نلقى العدو بفخمةٍ ملمومةٍ * تنفي الجموع كقصد رأس المشرق ونعدُّ للأعداء كل مقلص * ورد ومحجول القوائم أبلق تردى بفرسان كأن كماتهم * عند الهياج أسودُ طل ملتق صُدقٍ يعاطون الكماة حتوفهم * تحت العماية بالوشيج المزهق أمر الإله بربطها لعدوه * في الحرب إن الله خير موفق لتكون غيظاً للعدو وحيِّطاً * للدار إن دلفت خيول النزق ويعيننا الله العزيز بقوة * منه وصدق الصبر ساعة نلتقي ونطيع أمر نبينا ونجيبه * وإذا دعا لكريهة لم نسبق ومتى ينادى للشدائد نأتها * ومتى نرى الحومات فيها نعتق من يتبع قول النبي فإنه * فينا مطاع الأمر حق مصدق فبذاك ينصرنا ويظهر عزنا * ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق إن الذين يكذبون محمداً * كفروا وضلوا عن سبيل المتقي (ج/ص: 4/ 155) قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضاً: لقد علم الأحزاب حين تألبوا * علينا وراموا ديننا ما نوادع أضاميمُ من قيس بن غيلان أصفقت * وخندف لم يدروا بما هو واقع يذودوننا عن ديننا ونذودهم * عن الكفر والرحمن رادٌ وسامع إذا غايظونا في مقام أعاننا * على غيظهم نصر من الله واسع وذلك حفظ الله فينا وفضله * علينا ومن لم يحفظ الله ضائع هدانا لدين الحق واختاره لنا * ولله فوق الصانعين صانع قال ابن هاشم: وهذه الأبيات في قصيدة له - يعني طويلة -، قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في مقتل بني قريظة: لقد لقيت قريظة ما ساءها * وما وجدت لذل من نصير أصابهم بلاء كان فيه * سوى ما قد أصاب بني النضير غداة أتاهم يهوي إليهم * رسول الله كالقمر المنير له خيل مجنبةٌ تغادي * بفرسان عليها كالصقور تركناهم وما ظفروا بشيءٍ * دماؤهم عليها كالعبير فهم صرعى تحوم الطير فيهم * كذاك يدان ذو العند الفجور فأنذر مثلها نصحاً قريشاً * من الرحمن إن قبلت نذيري قال: وقال حسان بن ثابت أيضاً في بني قريظة: تعاقد معشر نصروا قريشاً *وليس لهم ببلدتهم نصير هم أوتوا الكتاب فضيعوه * وهم عميٌّ من التوراة بور كفرتم بالقرآن وقد أتيتم * بتصديق الذي قال النذير فهان على سراة بني لؤيٍ * حريق بالبويرة مستطير فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقال: أدام الله ذلك من صنيعٍ * وحرَّق في طائفها السعير ستعلم أينا منها بنزه * وتعلم أي أرضينا تضير فلو كان النخيل بها ركاباً * لقالوا لا مقام لكم فسيروا قلت: وهذا قاله أبو سفيان بن الحارث قبل أن يسلم. وقد تقدم في صحيح البخاري بعض هذه الأبيات. وذكر ابن إسحاق جواب حسان في ذلك لجبل بن جوال الثعلبي تركناه قصداً. (ج/ص: 4/ 156) قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضاً يبكي سعداً وجماعة ممن استشهد يوم بني قريظة: ألا يا لقومي هل لما حم دافع * وهل ما مضى من صالح العيش راجع تذكرت عصراً قد مضى فتهافتت * بنات الحشا وأنهل مني المدامع صبابة وجد ذكرتني إخوة * وقتلى مضى فيها طفيل ورافع وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت * منازلهم فالأرض منهم بلاقع وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم * ظلال المنايا والسيوف اللوامع دعا فأجابوه بحق وكلهم * مطيع له في كل أمر وسامع فما نكلوا حتى توالوا جماعة * ولا يقطع الآجال إلا المصارع لأنهم يرجون منه شفاعة * إذا لم يكن إلا النبيون شافع فذلك يا خير العباد بلاؤنا * إجابتنا لله والموت ناقع لنا القدم الأولى إليك وخلفنا * لأولنا في ملة الله تابع ونعلم أن الملك لله وحده * وأن قضاء الله لا بد واقع قال ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق - وهو أبو رافع - فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم. قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئاً فيه غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك. قال: ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلاً علينا أبداً. قال: فتذكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم. فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث ابن ربعي، وخزاعى بن أسود حليف لهم من أسلم. (ج/ص: 4/ 157) فخرجوا وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو امرأة، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدار حتى أغلقوه على أهله. قال: وكان في علية له إليها عجلة، قال: فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة. قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة تخوفاً أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه. قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الله إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة. قال: فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل. قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني أي: حسبي حسبي. قال: وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، قال فوقع من الدرجة فوثبت يده وثباً شديداً، وحملناه حتى نأتي به منهراً من عيونهم فندخل فيه، فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبونا، حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه وهو يقضي. قال: فقلنا كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات ؟ قال: فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس. قال: فوجدتها - يعني امرأته - ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم، وتقول: أما والله قد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد، ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه فقالت: فاظ وإله يهود، فما سمعت كلمة كانت ألذ على نفسي منها. قال: ثم جاءنا فأخبرنا فاحتملنا صاحبنا، وقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه. قال: فقال: ((هاتوا أسيافكم)) فجئنا بها فنظر إليها فقال: لسيف عبد الله بن أنيس هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك: لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحاً كأسد في عرين مغرف حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفاً ببيض ذفف مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف هكذا أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله. (ج/ص: 4/ 158) وقد قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلاً وهو نائم فقتله. قال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق متلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود. قال: فقمت إلى الأقاليد وأخذتها، وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل. فقلت: إن القوم سدروا لي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع. قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت صبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته. فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعي أبا رافع ناصر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: ((ابسط رجلك)) فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط. (ج/ص: 4/ 159) قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، حدثنا شريح، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق سمعت البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن، فقال لهم عبد الله بن عتيك: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر. قال: فتلطفت حتى أدخل الحصن، ففقدوا حماراً لهم فخرجوا بقبس يطلبونه، قال: فخشيت أن أعرف قال: فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة، ثم نادى صاحب الباب فقال: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات ولا أسمع حركة خرجت. قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة، فأخذته ففتحت به باب الحصن. قال: قلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم، فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه، فلم أدر أين الرجل. فقلت: يا أبا رافع. قال: من هذا ؟ فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئاً، قال: ثم جئته كأني أغيثه، فقلت: ما لك يا أبا رافع؟ وغيرت صوتي. قال: لا أعجبك لأمك الويل دخل علي رجل فضربني بالسيف. قال: فعمدت إليه أيضاً فأضربه أخرى، فلم تغن شيئاً فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه ثم أنكفئ عليه، حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشاً حتى أتيت السلم أريد أن أنزل، فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية. فلما كان وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعي أبا رافع. قال: فقمت أمشي ما بي قلبه، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشرته. تفرد به البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة. ثم قال: قال الزهري: قال أبي بن كعب: فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: ((أفلحت الوجوه)) قال: أفلح وجهك يا رسول الله. قال: ((أفتكتموه)) قالوا: نعم. قال: ((ناولني السيف)) فسله فقال: أجل هذا طعامه في ذباب السيف. (ج/ص: 4/ 160) قلت: يحتمل أن عبد الله بن عتيك لما سقط من تلك الدرجة انفكت قدمه، وانكسرت ساقه، ووثبت رجله، فلما عصبها استكن ما به لما هو فيه من الأمر الباهر. ولما أراد المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع، ثم لما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقرت نفسه ثاوره الوجع في رجله، فلما بسط رجله ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ما كان بها ما بأس في الماضي، ولم يبق بها وجع يتوقع حصوله في المستقبل، جمعاً بين هذه الرواية والتي تقدمت، والله أعلم. هذا وقد ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) مثل سياق محمد بن إسحاق، وسمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق، وإبراهيم، وأبو عبيد. ذكره الحافظ البيهقي في (الدلائل) تلو مقتل أبي رافع. قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني، وهو بعرنة فائته فاقتله)). قال: قلت: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه. قال: ((إذا رأيته وجدت له قشعريرة)). قال: فخرجت متوشحاً سيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي للركوع والسجود. فلما انتهيت إليه قال: من الرجل ؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك. قال: أجل أنا في ذلك. قال: فمشيت معه شيئاً، حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني قال: ((أفلح الوجه)). قال: قلت: قتلته يا رسول الله. قال: ((صدقت)). قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته، فأعطاني عصا فقال: ((أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس)). قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولاً ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: ((آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون يومئذ)). قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه، ثم دفنا جميعاً. (ج/ص: 4/ 161) ثم رواه الإمام أحمد: عن يحيى بن آدم، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن بعض ولد عبد الله بن أنيس - أو قال عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس - عن عبد الله بن أنيس فذكر نحوه. وهكذا رواه أبو داود: عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، فذكر نحوه. ورواه الحافظ البيهقي: من طريق محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن أنيس، عن أبيه فذكره. وقد ذكر قصة عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، في (مغازيهما) مرسلة، فالله أعلم. قال ابن هشام: وقال عبد الله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان: تركت ابن ثور كالحوار وحوله * نوائح تفري كل جيب معدد تناولته والظعن خلفي وخلفه * بأبيض من ماء الحديد المهند عجوم لهام الدارعين كأنه * شهاب غضي من ملهب متوقد أقول له والسيف يعجم رأسه * أنا ابن أنيس فارس غير قعدد أنا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره * رحيب فناء الدار غير مزند وقلت له: خذها بضربة ماجد * خفيف على دين النبي محمد وكنت إذا هم النبي بكافر * سبقت إليه باللسان وباليد قلت: عبد الله بن أنيس بن حرام: أبو يحيى الجهني صحابي مشهور كبير القدر، كان فيمن شهد العقبة وشهد أحداً والخندق وما بعد ذلك، وتأخر موته بالشام إلى سنة ثمانين على المشهور، وقيل توفي سنة أربع وخمسين، والله أعلم. وقد فرق علي بن الزبير، وخليفة بن خياط بينه وبين عبد الله بن أنيس أبي عيسى الأنصاري، الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا يوم أحد بأداوة فيها ماء، فحل فمها وشرب منها. كما رواه أبو داود، والترمذي من طريق عبد الله العمري، عن عيسى بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه. ثم قال الترمذي: وليس إسناده يصح، وعبد الله العمري ضعيف من قبل حفظه. قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبي رافع: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس أبي الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس، حدثني عمرو بن العاص من فيه قال: لما انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً، وإني لقد رأيت أمراً فما ترون فيه؟ (ج/ص: 4/ 162) قالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير. قالوا: إن هذا لرأي. قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له، فكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه. قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده. قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع. فقال: مرحباً بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئاً ؟ قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدماً كثيراً. قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقاً، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله ؟ قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو ؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده. قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام ؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة. فقلت: أين أبا سليمان ؟ فقال: والله لقد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى ؟ قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم. قال: فقدمنا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فتقدم خال بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها)). قال: فبايعته ثم انصرفت. (ج/ص: 4/ 163) قال ابن إسحاق: وقد حدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما أسلم حين أسلما، فقال عبد الله بن أبي الزبعري السهمي: أنشد عثمان بن طلحة خلفنا * وملقى نعال القوم عند المقبل وما عقد الإباء من كل حلقة * وما خالد من مثلها بمحلل أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي * وما تبتغي من بيت مجد مؤثل فلا تأمنن خالداً بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل قلت: كان إسلامهم بعد الحديبية، وذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه، فكان ذكر هذا الفصل في إسلامهم بعد ذلك أنسب. ولكن ذكرنا ذلك تبعاً للإمام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى، لأن أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق، الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس، والله أعلم. ذكر البيهقي بعد وقعة الخندق من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: قال: هو تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين. ثم قال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا علي بن عيسى قال: حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أنبأنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة أنها كانت عند عبد الله بن جحش، وكان رحل إلى النجاشي فمات. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة، وزوجها إياه النجاشي ومهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهزها من عنده، وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء. (ج/ص: 4/ 164) قال: وكان مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة، قلت: والصحيح أن مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثنتي عشرة أوقية ونشا، والوقية: أربعون درهماً. والنش: النصف. وذلك يعدل خمسمائة درهم. ثم روى البيهقي: من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة أن عبيد الله بن جحش مات بالحبشة نصرانياً، فخلف على زوجته أم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها منه عثمان بن عفان رضي الله عنه. قلت: أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه، وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، استزله الشيطان فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه لعنه الله، وكان يعير المسلمين فيقول لهم: أبصرنا وصأصأتم، وقد تقدم شرح ذلك في هجرة الحبشة. وأما قول عروة: إن عثمان زوجها منه فغريب، لأن عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك، ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته رقية كما تقدم، والله أعلم. والصحيح ما ذكره يونس، عن محمد بن إسحاق قال: بلغني أن الذي ولي نكاحها ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص. قلت: وكان وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبول العقد أصحمة النجاشي ملك الحبشة، كما قال يونس، عن محمد بن إسحاق: حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وساق عنه أربعمائة دينار. وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسماعيل بن عمرو: أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي، جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ووهنه، فاستأذنت علي، فأذنت لها فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه. فقلت: بشرك الله بالخير. وقالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك. قالت: فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطيت أبرهة سوارين من فضة، وخذمتين من فضة كانتا علي، وخواتيم من فضة في كل أصابع رجلي سروراً بما بشرتني به، فلما أن كان من العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن كان هناك من المسلمين أن يحضروا. وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. (ج/ص: 4/ 165) قلت: فلعل عمرو بن العاص لما رأى عمرو بن أمية خارجاً من عند النجاشي بعد الخندق إنما كان في قضية أم حبيبة فالله أعلم. لكن قال الحافظ البيهقي: ذكر أبو عبد الله ابن منده أن تزويجه عليه السلام بأم حبيبة كان في سنة ست، وأن تزويجه بأم سلمة كان في سنة أربع. قلت: وكذا قال خليفة، وأبو عبيد الله معمر بن المثنى، وابن البرقي، وأن تزويج أم حبيبة كان في سنة ست، وقال بعض الناس: سنة سبع. قال البيهقي: هو أشبه. قلت: قد تقدم تزويجه عليه السلام بأم سلمة في أواخر سنة أربع، وأما أم حبيبة فيحتمل أن يكون قبل ذلك، ويحتمل أن يكون بعده، وكونه بعد الخندق أشبه لما تقدم من ذكر عمرو بن العاص، أنه رأى عمرو بن أمية عند النجاشي، فهو في قضيتها، والله أعلم. وقد حكى الحافظ ابن الأثير في (الغابة): عن قتادة أن أم حبيبة لما هاجرت من الحبشة إلى المدينة، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها. وحكي عن بعضهم أنه تزوجها بعد إسلام أبيها بعد الفتح. واحتج هذا القائل بما رواه مسلم: من طريق عكرمة بن عمار اليماني، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن. قال: ((نعم)). قال: تؤمرني على أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: ((نعم)) قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك. قال: ((نعم)) قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها. الحديث بتمامه. قال ابن الأثير: وهذا الحديث مما أنكر على مسلم، لأن أبا سفيان لما جاء يجدد العقد قبل الفتح، دخل على ابنته أم حبيبة، فثنت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما أدري أرغبت بي عنه، أو به عني؟ قالت: بل هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك. فقال: والله لقد أصابك بعدي يا بنية شر. وقال ابن حزم: هذا الحديث وضعه عكرمة بن عمار، وهذا القول منه لا يتابع عليه. وقال آخرون: أراد أن يجدد العقد لما فيه بغير إذنه من الغضاضة عليه. وقال بعضهم: لأنه اعتقد انفساخ نكاح ابنته بإسلامه. وهذه كلها ضعيفة، والأحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الأخرى مرة، لما رأى في ذلك من الشرف له، واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين، وإنما وهم الراوي في تسميته أم حبيبة، وقد أوردنا لذلك خبراً مفرداً. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: توفيت قبل معاوية لسنة، وكانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين. (ج/ص: 4/ 166) تزويجه بزينب بنت جحش ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدية أم المؤمنين، وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه. قال قتادة، والواقدي، وبعض أهل المدينة: تزوجها عليه السلام سنة خمس، زاد بعضهم في ذي القعدة. قال الحافظ البيهقي: تزوجها بعد بني قريظة. وقال خليفة بن خياط، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وابن منده: تزوجها سنة ثلاث. والأول أشهر، وهو الذي سلكه ابن جرير، وغير واحد من أهل التاريخ. وقد ذكر غير واحد من المفسرين، والفقهاء، وأهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه السلام حديثاً ذكره أحمد بن حنبل في مسنده، تركنا إيراده قصداً لئلا يضعه من لا يفهم على غير موضعه. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية، فالمراد بالذي أنعم الله عليه ها هنا: زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق، وزوجه بابنة عمه زينب بنت جحش. قال مقاتل بن حبان: وكان صداقه لها عشرة دنانير، وستين درهماً، وخماراً، وملحفة، ودرعاً، وخمسين مداً، وعشرة أمداد من تمر، فمكثت عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زوجها يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول له: ((اتق الله وأمسك عليك زوجك)). قال الله: قال علي بن الحسين زيد العابدين، والسدي: كان رسول الله قد علم أنها ستكون من أزواجه، فهو الذي كان في نفسه عليه السلام. وقد تكلم كثير من السلف ها هنا بآثار غريبة، وبعضها فيه نظر، تركناها. قال الله تعالى: كما ثبت في صحيح البخاري: عن أنس بن مالك أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. وفي رواية من طريق عيسى بن طهمان عن أنس قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: أنكحني الله من السماء. وفيها أنزلت آية الحجاب وروى البيهقي من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو زينب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اتق الله وأمسك عليك زوجك)). قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه، فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. ثم قال: رواه البخاري عن أحمد، عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن حماد بن زيد. ثم روى البيهقي: من طريق عفان، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمسك عليك أهلك)) فنزلت ثم قال أخرجه البخاري: عن محمد بن عبد الرحيم، عن يعلى بن منصور، عن محمد مختصراً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهم: إن جدي وجدك واحد - تعني عبد المطلب - فإنه أبو أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو أمها أميمة بنت عبد المطلب، وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإن السفير جبريل عليه السلام. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم - يعني ابن القاسم - حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: ((اذهب فاذكرها علي)). فانطلق حتى أتاها، وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل. ثم قامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. قال أنس: ولقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه، يسلم عليهم ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته، والقوم قد خرجوا أو أخبر. قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به
|